شرح و تفسير سورة القلم شرح و تفسير سورة القلم شرح و تفسير سورة القلم شرح و تفسير سورة القلم شرح و تفسير سورة القلم شرح و تفسير سورة القلم شرح و تفسير سورة القلم شرح و تفسير سورة القلم
مقدمة سورة القلم _ نقلة هائلة _
..... والذي نرجحه بشأن السورة كلها
أنها ليست الثانية في ترتيب النزول ;
وأنها نزلت بعد فترة من البعثة النبوية بعد أمر النبي صلى الله عليه وسلم
بالدعوة العامة . وبعد قول الله تعالى له :
(وأنذر عشيرتك الأقربين).
وبعد نزول طائفة من القرآن فيها شيء من قصص الأولين وأخبارهم ,
التي قال عنها قائلهم : (أساطير الأولين). .
وبعدما أصبحت قريش مدعوة إلى الإسلام كافة ,
وأصبحت تدفع هذه الدعوة بالاتهامات الباطلة والحرب العنيفة
التي اقتضت تلك الحملة العنيفة الواردة في السورة على المكذبين ,
والتهديد القاصم في أولها وفي آخرها على السواء . .
والمشهد الأخير في السورة يوحي بهذا كذلك :
( وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم لما سمعوا الذكر ..)
فهو مشهد دعوة عامة لمجموعات كبيرة .
ولم يكن الأمر كذلك في أول الدعوة
. إنما كانت الدعوة توجه إلى أفراد . بوسيلة فردية .
ولا تلقى إلى الذين كفروا وهم متجمعون . ولم يقع شيء من هذا
- كما تقول الروايات الراجحة - إلا بعد ثلاث سنوات من بدء الدعوة .
والسورة تشير إلى شيء من عروض المشركين
على النبي صلى الله عليه وسلم للالتقاء في منتصف الطريق
والتهادن على تراض في القضية التي يختلفون عليها وهي قضية العقيدة:
(ودوا لو تدهن فيدهنون). .
وظاهر أن مثل هذه المحاولة لا تكون والدعوة فردية , ولا خطر منها
. إنما تكون بعد ظهورها , وشعور المشركين بخطرها .
وهكذا تتضافر الشواهد على أن هذه السورة نزلت متأخرة
عن أيام الدعوة الأولى .
وأن هناك ثلاث سنوات على الأقل - قابلة للزيادة –
بين بدء الدعوة وبين وقت نزولها .
ولا يعقل أن ثلاث سنوات مرت لم يتنزل فيها قرآن .
والطبيعي أن تكون هناك سور كثيرة وأجزاء من سور
قد نزلت في هذه الفترة , تتحدث عن ذات العقيدة بدون مهاجمة عنيفة
للمكذبين بها كالوارد في هذه السورة منذ مطلعها .
ولكن هذا لا ينفي أن تكون هذه السورة وسورتا المدثر والمزمل
قد نزلت في الفترة الأولى من الدعوة . وإن لم يكن ذلك أول ما نزل
كما هو وارد في المصاحف , للأسباب التي أوردناها هنا .
وهي تكاد تنطبق كذلك على سورتي المزمل والمدثر .
**
لقد كانت هذه الغرسة - غرسة العقيدة الإسلامية –
تودع في الأرض لأول مرة في صورتها الرفيعة المجردة الناصعة .
وكانت غريبة على حس الجاهلية السائدة ,
لا في الجزيرة العربية وحدها
بل كذلك في أنحاء الأرض جميعا .
وكانت النقلة عظيمة بين الصورة الباهتة المحرفة المشوهة
من ملة إبراهيم التي يستمسك بخيوط حائلة منها مشركو قريش ,
ويلصقون بها الترهات والأساطير والأباطيل السائدة عندهم ,
وبين الصورة الباهرة العظيمة المستقيمة الواضحة البسيطة
الشاملة المحيطة التي جاءهم بها محمد صلى الله عليه وسلم
متفقة في أصولها مع الحنيفية الأولى - دين إبراهيم عليه السلام –
وبالغة نهاية الكمال الذي يناسب كونها الرسالة الأخيرة للأرض ,
الباقية لتخاطب الرشد العقلي في البشرية إلى آخر الزمان .
وكانت النقلة عظيمة بين الشرك بالله وتعدد الأرباب ,
وعبادة الملائكة وتماثيلها , والتعبد للجن وأرواحها ,
وسائر هذه التصورات المضطربة المفككة
التي تتألف منها العقيدة الجاهلية . .
وبين الصورة الباهرة التي يرسمها القرآن للذات الإلهية الواحدة
وعظمتها وقدرتها , وتعلق إرادتها بكل مخلوق .
كذلك كانت النقلة عظيمة بين الطبقية السائدة في الجزيرة ,
والكهانة السائدة في ديانتها , واختصاص طبقات بالذات بالسيادة
والشرف وسدانة الكعبة والقيام بينها وبين العرب الآخرين . .
وبين البساطة والمساواة أمام الله والاتصال المباشر بينه وبين عباده
كما جاء بها القرآن .
ومثلها كانت النقلة بين الأخلاق السائدة في الجاهلية والأخلاق
التي جاء القرآن يبشر بها , وجاء محمد صلى الله عليه وسلم
يدعو إليها ويمثلها .
وكانت هذه النقلة وحدها كافية للتصادم بين العقيدة الجديدة
وبين قريش ومعتقداتها وأخلاقها .
ولكن هذه لم تكن وحدها . فقد كان إلى جانبها اعتبارات
- ربما كانت أضخم في تقدير قريش من العقيدة ذاتها –
على ضخامتها .
كانت هناك الاعتبارات الاجتماعية التي دعت بعضهم أن يقول
كما حكى عنهم القرآن الكريم
( لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم !). .
والقريتان هما مكة والطائف . فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم
مع شرف نسبه , وأنه في الذؤابة من قريش ,
لم تكن له مشيخة فيهم ولا رياسة قبل البعثة .
بينما كان هناك مشيخة قريش ومشيخة ثقيف وغيرهما
في بيئة تجعل للمشيخة والرياسة القبلية كل الاعتبار ,
فلم يكن من السهل الانقياد خلف محمد صلى الله عليه وسلم
من هؤلاء المشيخة !
وكانت هناك الاعتبارات العائلية التي تجعل رجلا
كأبي جهل "عمرو بن هشام" يأبى أن يسلم بالحق
الذي يواجهه بقوة في الرسالة الإسلامية ,
لأن نبيها من بني عبد مناف . . وذلك كما ورد في قصته
مع الأخنس بن شريق وأبي سفيان بن حرب ,
حين خرجوا ثلاث ليال يستمعون القرآن خفية ,
وهم في كل ليلة يتواعدون على عدم العودة خيفة أن يراهم الناس
فيقع في نفوسهم شيء . فلما سأل الأخنس بن شريق أبا جهل
رأيه فيما سمع من محمد كان جوابه:"ماذا سمعت ?
تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف:أطعموا فأطعمنا ,
وحملوا فحملنا , وأعطوا فأعطينا . حتى إذا تجاثينا على الركب ,
وكنا كفرسي رهان , قالوا:منا نبي يأتيه الوحي من السماء .
فمتى ندرك مثل هذه ? والله لا نؤمن به أبدا ولا نصدقه ! " .
وكانت هناك اعتبارات أخرى نفعية وطبقية ونفسية
من ركام الجاهلية في المشاعر والتصورات والأوضاع كلها
تحاول قتل تلك الغرسة الجديدة في مغرسها بكل وسيلة
قبل أن تثبت جذورها وتتعمق , وقبل أن تمتد فروعها وتتشابك .
وبخاصة بعد أن تجاوزت دور الدعوة الفردية ;
وأمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يجهر بالدعوة ;
وأخذت معالم الدعوة الجديدة تبرز , كما أخذ القرآن يتنزل
بتسفيه عقيدة الشرك وما وراءها من الآلهة المدعاة
والتصورات المنحرفة والتقاليد الباطلة .
والرسول صلى الله عليه وسلم ولو أنه نبي ,
ولو أنه يتلقى من ربه الوحي , ولو أنه يتصل بالملأ الأعلى
. . هو بشر , تخالجه مشاعر البشر .
وكان يتلقى هذه المقاومة العنيفة ,
وتلك الحرب التي شنها عليه المشركون ,
ويعاني وقعها العنيف الأليم , هو والحفنة القليلة
التي آمنت به على كره من المشركين .
وكان صلى الله عليه وسلم يسمع والمؤمنون به يسمعون ,
ما كان يتقوله عليه المشركون , ويتطاولون به على شخصه الكريم ,
( ويقولون : إنه لمجنون ). .!
ولم تكن هذه إلا واحدة من السخريات الكثيرة ,
التي حكاها القرآن في السور الأخرى ;
والتي كانت توجه إلى شخصه صلى الله عليه وسلم وإلى الذين آمنوا معه .
وغير الأذى الذي كان يصيب الكثيرين منهم على أيدي أقربائهم الأقربين !
والسخرية والاستهزاء - مع الضعف والقلة –
مؤذيان أشد الإيذاء للنفس البشرية , ولو كانت هي نفس رسول .
ومن ثم نرى في السور المكية - كسور هذا الجزء –
أن الله كأنما يحتضن - سبحانه - رسوله والحفنة المؤمنة معه ,
ويواسيه ويسري عنه , ويثني عليه وعلى المؤمنين .
ويبرز العنصر الأخلاقي الذي يتمثل في هذه الدعوة وفي نبيها الكريم .
وينفي ما يقوله المتقولون عنه , ويطمئن قلوب المستضعفين
بأنه هو يتولى عنهم حرب أعدائهم ,
ويعفيهم من التفكير في أمر هؤلاء الأعداء الأقوياء الأغنياء !
ونجد من هذا في سورة القلم مثل قوله تعالى عن النبي صلى الله عليه وسلم
) ن . والقلم وما يسطرون . ما أنت بنعمة ربك بمجنون .
وإن لك لأجرا غير ممنون . وإنك لعلى خلق عظيم ). .
وقوله تعالى عن المؤمنين :
( إن للمتقين عند ربهم جنات النعيم .
أفنجعل المسلمين كالمجرمين ? مالكم ? كيف تحكمون( ?! . .
ويقول عن أحد أعداء النبي البارزين:
) ولا تطع كل حلاف مهين . هماز مشاء بنميم .
مناع للخير معتد أثيم . عتل بعد ذلك زنيم . أن كان ذا مال وبنين .
إذا تتلى عليه آياتنا قال:أساطير الأولين . سنسمه على الخرطوم !) . .
ثم يقول عن حرب المكذبين عامة:
( فذرني ومن يكذب بهذا الحديث . سنستدرجهم
من حيث لا يعلمون . وأملي لهم إن كيدي متين ). .
وذلك غير عذاب الآخرة المذل للمتكبرين:
( يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون .
خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة . وقد كانوا يدعون إلى السجود وهم سالمون )
ويضرب لهم أصحاب الجنة - جنة الدنيا - مثلا
على عاقبة البطر تهديدا لكبراء قريش المعتزين بأموالهم وأولادهم
ممن لهم مال وبنون ; الكائدون للدعوة بسبب مالهم من مال وبنين .
وفي نهاية السورة يوصي النبي صلى الله عليه وسلم بالصبر الجميل:
( فاصبر لحكم ربك ولا تكن كصاحب الحوت . .).
ومن خلال هذه المواساة وهذا الثناء وهذا التثبيت ,
مع الحملة القاصمة على المكذبين والتهديد الرهيب ,
يتولى الله - سبحانه - بذاته حربهم في ذلك الأسلوب العنيف . .
من خلال هذا كله نتبين ملامح تلك الفترة , فترة الضعف والقلة ,
وفترة المعاناة والشدة , وفترة المحاولة القاسية
لغرس تلك الغرسة الكريمة في تلك التربة العنيدة !
كذلك نلمح من خلال أسلوب السورة وتعبيرها وموضوعاتها
ملامح البيئة التي كانت الدعوة الإسلامية تواجهها .
وهي ملامح فيها سذاجة وبدائية في التصور والتفكير والمشاعر
والاهتمامات والمشكلات على السواء .
نلمح هذه السذاجة في طريقة محاربتهم للدعوة بقولهم للنبي
صلى الله عليه وسلم : ( إنه لمجنون! ) !
. وهو اتهام لا حبكة فيه ولا براعة
وأسلوب من لا يجد إلا الشتمة الغليظة يقولها بلا تمهيد ولا برهان ,
كما يفعل السذج البدائيون ..!!
ونلمحها في الطريقة التي يرد الله بها عليهم فريتهم ردا يناسب حالهم:
(ما أنت بنعمة ربك بمجنون . وإن لك لأجرا غير ممنون .
وإنك لعلى خلق عظيم . فستبصر ويبصرون . بأيكم المفتون). .
وكذلك في التهديد المكشوف العنيف:
( فذرني ومن يكذب بهذا الحديث . سنستدرجهم من حيث لا يعلمون .
وأملي لهم إن كيدي متين). .
ونلمحها في رد هذا السب على رجل منهم:
(ولا تطع كل حلاف مهين . هماز مشاء بنميم .
مناع للخير معتد أثيم . عتل بعد ذلك زنيم . . .).
ونلمحها في القصة - قصة أصحاب الجنة –
التي ضربها الله لهم . وهي قصة قوم سذج في تفكيرهم وتصورهم وبطرهم ,
وفي حركاتهم كذلك وأقوالهم
(وهم يتخافتون . ألا يدخلنها اليوم عليكم مسكين . . الخ).
وأخيرا نلمح سذاجتهم من خلال ما يوجهه إليهم من الجدل:
(أم لكم كتاب فيه تدرسون:إن لكم فيه لما تخيرون ?
أم لكم أيمان علينا بالغة إلى يوم القيامة إن لكم لما تحكمون ?
سلهم أيهم بذلك زعيم ?). . .
وهي ملامح تظهر بوضوح من خلال التعبير القرآني ,
وتفيد في دراسة السيرة ووقائعها وخطوات الدعوة فيها ;
ومدى ما ارتفع القرآن بعد ذلك بهذه البيئة وبتلك الجماعة
في أواخر عهد الرسول صلى الله عليه وسلم ومدى ما نقلها
من هذه السذاجة في التفكير والتصور والشعور والاهتمام
. كما يتضح في أساليب الخطاب فيما بعد ,
وفي الحقائق والمشاعر والتصورات والاهتمامات
بعد عشرين عاما لا تزيد . وهي في حياة الأمم ومضة لا تذكر .
ولا تقاس إليها تلك النقلة الواسعة الشاملة . .
التي انتقلتها الجماعة في هذا الوقت القصير .
والتي تسلمت بها قيادة البشرية فارتفعت بتصوراتها وأخلاقها
إلى القمة التي لم ترتفع إليها قيادة قط في تاريخ البشرية ,
لا من ناحية طبيعة العقيدة , ولا من ناحية آثارها الواقعية
في حياة الإنسان في الأرض , ولا من ناحية السعة والشمول
لتضم الإنسانية كلها بين جوانحها في سماحة وعطف ,
وفي تلبية لكل حاجاتها الشعورية , وحاجاتها الفكرية ,
وحاجاتها الاجتماعية , وحاجاتها التنظيمية في شتى الميادين . .
إنها المعجزة تتجلى في النقلة من هذه السذاجة التي تبدو ملامحها من خلال مثل هذه السورة إلى ذلك العمق والشمول .
وهي نقلة أوسع وأكبر من تحول القلة إلى كثرة ,
والضعف إلى قوة ,
لأن بناء النفوس والعقول أعسر من بناء الأعداد والصفوف ..
**
ثم شرع رحمه الله في تناول الآيات آية في إثر آية ....